فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


الجزء الرابع

سورة النور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «سورة»‏:‏ خبر، أي‏:‏ هذه سورة، وأشير لها، مع عدم تقدم ذكره؛ لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ‏.‏ وقرئ بالنصب على الاشتغال، وجملة‏:‏ ‏(‏أنزلناها‏)‏، وما عطف عليه‏:‏ صفة لسورة، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة‏.‏ و‏(‏الزانية‏)‏‏:‏ مبتدأ، والخبر ‏(‏فاجلدوا‏)‏، ودخلت الفاء؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ إذ اللام موصولة، أي‏:‏ والتي زنت والذي زنى فاجلدوا، هذا مذهب المبرد وغيره، والاختيار عند سيبويه‏:‏ الرفع على الابتداء، والخبر‏:‏ محذوف، أي‏:‏ فيما فرض عليكم، أو‏:‏ مما يُتلى عليكم‏:‏ حكم الزانية والزاني، وقدَّم الزانية؛ لأنها الأصل في الفعل، والداعية فيها أوفر، ولوال تمكينها منه لم يقع‏.‏ وقيل‏:‏ لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر، بخلاف السرقة، ففي الرجال أكثر، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ هذه ‏{‏سورةٌ‏}‏، وهي الجامعة لآيات، بفاتحة لها وخاتمة، مشتقة من سور البلد‏.‏ من نعت تلك السورة‏:‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ عليك، ‏{‏وفرضْنَاها‏}‏ أي‏:‏ فرضنا الأحكام التي فيها‏.‏ وأصل الفرض‏:‏ القطع، أي‏:‏ جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب‏.‏

وقرأ المكي وأبو عمرو‏:‏ بالتشديد؛ للمبالغة في الإيجاب وتوكيده، أو‏:‏ لأن فيها فرائض شتى، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم‏.‏

‏{‏وأنزلنا فيها‏}‏ أي‏:‏ في تضاعيفها ‏{‏آيات بينات‏}‏ أي‏:‏ دلائل واضحات؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها؛ فإنها كسائر السور‏.‏ وتكرير ‏(‏أنزلنا‏)‏، مع أن جميع الآيات عين السورة؛ لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر؛ إبانة لخطرها، ورفعاً لقدرها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58‏]‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏لعلكم تذكَّرون‏}‏ أي‏:‏ لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها‏.‏ وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها‏.‏

ثم شرع في تفصيل أحكامها، فقال‏:‏ ‏{‏الزانيةُ والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ‏}‏؛ إذا كانا حُرَّيْن، بالغين، غَيْر مُحْصَنَيْنِ، وألا تكون المرأة مكرَهة‏.‏ وظاهر الآية‏:‏ عموم المحصن وغيره، ثم نسخ بالسُنة المشهورة‏.‏ وقد رجم- عليه الصلاة والسلام- مَاعزاً وغيره‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ جلدتهما بكتاب الله، ورجمتهما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة، وهي‏:‏ ‏(‏الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما أَلْبَتَّةَ؛ نكالاً من الله والله عزيز حكيم‏)‏، ويأباه ما رُوي عن علي رضي الله عنه‏.‏ ه‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

وشرط الإحصان‏:‏ العقل، والحرية، والإسلام، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، ودخول معتبر‏.‏ وفي التعبير بالجلد، دون الضرب؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر‏.‏ والخطاب للأئمة؛ لأن إقامة الحدود من الدِّين، وهو على الكل، إلا أنه لا يمكن الاجتماع، فيقوم الإمام مقامهم، وزاد مالك والشافعي مع الجلد‏:‏ تغريب عام، أخذاً بالحديث الصحيح‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إنه منسوخ بالآية‏.‏

‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفةٌ‏}‏ أي‏:‏ رحمة ورقة‏.‏ وفيها لغات‏:‏ السكونُ، والفتح مع القصر والمد، كالنشأة والنشاءة، وقيل‏:‏ الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب‏.‏ ‏{‏في دين الله‏}‏ أي‏:‏ طاعته وإقامة حدوده، والمعنى‏:‏ أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله‏.‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏، هو من باب التهييج، وإلهاب الغضب لله، ولدينه، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء أحكامه‏.‏ وذكر اليوم الآخر؛ لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة‏.‏ وجواب الشرط‏:‏ مضمر، أي‏:‏ إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد‏.‏

قيل لأبي مجلز في هذه الآية‏:‏ والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده، فقال‏:‏ إنما ذلك في السلطان، ليس له أن يدعهم رحمة لهم‏.‏ وجَلَدَ ابن عمر جارية، فقال للجلاد‏:‏ ظهرَها ورجليها وأسفلها، وخفّف، فقيل له‏:‏ أين قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ أأقتلها‏؟‏، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها، ولم يأمرني أن أقتلها‏.‏ ه‏.‏ ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة‏.‏

‏{‏وليشهدْ عذابَهما‏}‏ أي‏:‏ وليحضر موضع حدِّهما ‏{‏طائفةٌ من المؤمنين‏}‏؛ زيادة في التنكيل، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ ينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية، وقُربة تعبدية، يجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلها، وحالها، بحيث لا يتعذر شيء من شروطها وحرمتها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن، فلا يقصر عن الحد، ولا يزاد عليه‏.‏ ويطلب الاعتدال في السوط، فلا يكون ليناً جداً، ولا يابساً جداً، وكذلك في الضرب، فلا يرفع يده حتى يرى إبطه، ولا يخفف فيه جداً، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره‏.‏

وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة‏.‏ و«الطائفة»‏:‏ فرقة، يمكن أن تكون حافة حول الشيء، من الطوْف، وهو الإدارة، وأقلها‏:‏ ثلاثة، وقيل‏:‏ أربعة إلى أربعين‏.‏

وعن الحسن‏:‏ عشرة، والمراد‏:‏ جمع يحصل به التشهير‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التقوى أساس الطريق، وبها يقع السير إلى عين التحقيق‏.‏ فمن لا تقوى له لا طريق له، ومن لا طريق له لا سير له، ومن لا سيرله لا وصول له‏.‏ وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما تَرَكْتُ بَعْدِي أضَرّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يا معشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ستَّ خصال‏:‏ ثلاثاً في الدنيا، وثلاثاً في الآخرة‏:‏ فأما اللاتي في الدنيا؛ فيُذهب البهاء، ويورثُ الفقرَ، وينْقُصُ العمرَ، وأما اللاتي في الآخرة؛ فيوجب السخطَة وسوءَ الحسابِ والخلودَ إلى النار» والمراد بنقص العمر‏:‏ قلة بركته، وبالخلود‏:‏ طول المكث‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ «إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني»، وعن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة» وقال وهب بن منبه‏:‏ ‏(‏مكتوب في التوراة‏:‏ الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى‏)‏‏.‏

وفي بعض الأخبار القدسية‏:‏ «يقول الله عز وجل‏:‏ أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة، كما في حديث البخاري‏.‏ وقال ابن رشد‏:‏ ليس بعد الشرك أقبح من الزنا؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله‏}‏‏:‏ قال في الإحياء‏:‏ في الحديث‏:‏» خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا «يعني‏:‏ في الدين؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة‏}‏، فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ من شأن ‏{‏الزاني‏}‏ الخبيث‏:‏ أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله، أو في مشركة، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها، من الفسقة أو المشركين، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد، جيء به؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن، وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏‏.‏

روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن؛ لحسنهن، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، فنفرهم الله تعالى عنه، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين، فلا تحوموا حوله؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم‏.‏

قيل‏:‏ كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنكاح‏:‏ الوطء، أي‏:‏ الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهو بعيد، أو باطل‏.‏

وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها‏.‏ فقال‏:‏ «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ، وآخره نكاح» و«الحرام لا يُحرم الحلال»‏.‏

ومعنى الجملة الأولى‏:‏ وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر‏.‏ ومعنى الثانية‏:‏ وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن الزناة، وهما معنيان مختلفان‏.‏ وقدّم الزاني هنا، بخلاف ما تقدم في الجلد؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، كما تقدم، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجل اصل فيه‏.‏

ثم ذكر الحُكْم فقال‏:‏ وحُرِّم ذلك على المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ نكاح الزواني بقصد التكسب، أو‏:‏ للجمال؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فكيف بالمؤمنين والأفاضل‏؟‏، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم، مبالغة في الزجر، وقيل‏:‏ النفي بمعنى النهي، وقرئ به‏.‏ والتحريم‏:‏ إما على حقيقته، ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ إلخ، أو‏:‏ مخصوص بسبب النزول‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ، فَمَنْ غَدَا *** مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا

وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ *** فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا

فالمرء على دين خليله، ومن تحقق بحالة لا يخلوا حاضروه منها، والحكم للغالب، فإن كان النورُ قوياً غلب الظلمةَ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور، وصيرته ظلمة، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني، فإنه وإن كان نور الزوج غالباً- إذا كان ذا نور- فإن العِرْقَ نَزَّاعٌ، فيسرى ذلك في الفروع، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة، ولا أولاد أهل العفة إلا أعِفَّاء،

‏{‏والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قيل‏:‏ وما خضراء الدمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ المرأة الحسناء في المنبت السوء» قال ابن السكيت‏:‏ شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب‏.‏ فيجيب على اللبيب- إن ساعفته الأقدار- أن يختار لزراعته الأرض الطيبة، وهي الأصل الطيب، لتكون الفروع طيبة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ» ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ثمانين»‏:‏ مفعول مطلق، و«جلَدة»‏:‏ تمييز‏.‏ «إلا الذين تابوا»‏:‏ إما استثناء من ضمير «لهم»، فمحله‏:‏ الجر، او‏:‏ من قوله‏:‏ «الفاسقون»، فمحله‏:‏ النصب؛ لأنه بعد مُوجَبٍ تام‏.‏

يقول الحق جل جلاله، في بيان شأن العفائف، بعد بيان شأن الزواني‏:‏ ‏{‏والذين يرمُون‏}‏ أي‏:‏ يقذفون بالزنا ‏{‏المحصناتِ‏}‏؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات، بأن يقول‏:‏ يا زانية، أو‏:‏ يا مُحبة، ولا فرق بين التصريح والتعريض، ولا بين النساء والرجال، قاذفاً أو مقذوفاً‏.‏ والتعبير بالرمي، المنبئ عن صلابة الآلة، وإيلام المرمى، وبعده عن الرامي؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن، وكونه رجماً بالغيب‏.‏ والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا، لا غير‏.‏

‏{‏ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء‏}‏ يشهدون عليهن بما رموهن به، وفي كلمة «ثم»؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود، كما أن في كلمة «لم»‏:‏ تحقق الإتيان بهم‏.‏ وشروط إحصان القذف‏:‏ الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والعفة عن الزنا، فإن توفرت الشروط ‏{‏فاجلدوهم‏}‏ أي‏:‏ القاذفين ‏{‏ثمانينَ جلدة‏}‏؛ لظهور كذبهم وافترائهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏، وتخصيص رميهن بهذا الحكم، مع أن رمي المحصنين أيضاً كذلك؛ لخصوص الواقعة، وشيوع الرمي فيهن‏.‏ والحدود كلها تشطر بالرق، فعلى العبد في الزنا خمسون، وفي القذف أربعون‏.‏

‏{‏ولا تقبلوا لهم‏}‏ بعد ذلك ‏{‏شهادةً أبداً‏}‏؛ زجراً لهم؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم‏.‏ وقد آذى المقذوف بلسانه، فعوقب بإهدار شهادته، جزاء وفاقاً‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي، أبداً، مدة حياتهم، فالرد من تتمه الحدّ، كأنه قيل‏:‏ فاجلدوهم وردوا شهادتهم، أي‏:‏ فاجمعوا لهم بين الجلد والبرد‏.‏ ‏{‏وأولئك هم الفاسقون‏}‏، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد، أي‏:‏ أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحد، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم، دون غيرهم‏.‏

‏{‏إلا الذين تابوا من بعد ذلك‏}‏ القذف، ‏{‏وأَصلحوا‏}‏ أحوالهم، فهو استثناء من الفاسقين، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ أي‏:‏ يغفر ذنوبهم ويرحمهم، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين‏.‏ فعلى هذا لا تُقبل شهادته مطلقاً فيما حدّ فيه وفي غيره؛ لأن رد شهادته وُصلت بالأبد، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء راجع لقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقبلوا لهم شهادة‏}‏، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقاً؛ لأنه زال عنه اسم الفسق، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقاً، فينتهي بالتوبة، وبه قال الشافعي وأصحابه، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار‏.‏

وفصل مالك، فقال‏:‏ لا تجوز فيما حدّ فيه، ولو تاب، وتجوز فيما سواه، وكأنه جمع بين القولين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب، وهو من شيم ذوي الألباب، وبه السلامة من الهلاك والعطَب، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب، وأقبح العيوب، ولله در القائل‏:‏

إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم *** وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ

لِسَانَكَ، لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرىءٍ *** فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ

وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيباً فقل لها‏:‏ *** أيا عَيْنُ لا تنظري؛ فللناس أعيُنُ

وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى *** وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ

فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه، ولا يرى في المملكة سواه، يذكر الله على الأشياء، فتنقلب نوراً؛ لحسن ظنه بالله، ويلتمس المعاذر لعباد الله؛ لكمال حسن ظنه بهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إلا أنفسهم‏)‏‏:‏ بدل من ‏(‏شهداء‏)‏، أو صفة له، على أن ‏(‏إلا‏)‏ بمعنى غير‏.‏ و‏(‏فشهادة‏)‏‏:‏ مبتدأ، والخب محذوف، أي‏:‏ واجبة، أو‏:‏ تدرأ عنه العذاب، أو‏:‏ خبر عن محذوف، أي‏:‏ فالواجب شهادة أحدهم، و‏(‏أنَّ‏)‏، في الموضعين‏:‏ مخففة، وَمَنْ شَدَّدَ؛ فعلى الأصل‏.‏ و‏(‏الخامسة‏)‏‏:‏ مبتدأ و‏(‏أنَّ غَضَبَ‏)‏‏:‏ خبر، وقرأ حفص بالنصب، أي‏:‏ ويشهد الشهادة الخامسة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ أي‏:‏ يقذفون زوجاتهم بالزنا، ‏{‏ولم يكن لهم شهداءُ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به ‏{‏إلا أنفسهُمُ‏}‏، جُعِلوا من جملة الشهداء؛ إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة، ‏{‏فشهادةُ أحدهم‏}‏ أي‏:‏ فالواجب شهادة أحدهم ‏{‏أربعُ شهادات بالله‏}‏ يقول أشهد بالله ‏{‏إنه لمن الصادقين‏}‏ فيما رماها به من الزنا‏.‏ ‏{‏والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه‏}‏ أي‏:‏ إنه لعنة الله عليه، أي‏:‏ يقول فيها‏:‏ لعنة الله عليه ‏{‏إن كان من الكاذبين‏}‏ فيما رماها به‏.‏ فإذا حلف دُرِىءَ عنه العذاب، أي‏:‏ دفع عنه الحد، وَإِنْ نَكَلَ‏:‏ حُدَّ؛ لقذفها‏.‏

‏{‏ويدرأُ عنها العذابَ‏}‏ أي‏:‏ يدفع عنها الحدَّ ‏{‏أن تشهدَ أربعَ شهاداتٍ بالله إِنه‏}‏ أي‏:‏ الزوج ‏{‏لمن الكاذبين‏}‏ فيما رماها به من الزنا، ‏{‏والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان‏}‏ الزوج ‏{‏من الصادقين‏}‏ فيما رماها به من الزنا‏.‏ وذكر الغضب في حق النساء؛ تغليظاً؛ لأن النساء؛ يستعملن اللعن كثيراً، كما ورد به الحديث‏:‏ «يُكْثِرْنَ اللعْنَ»، فربما يجترئن على الإقدام، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقعه عن قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن؛ ليكون ردعاً لهن‏.‏

فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن، عند مالك والشافعي، على سبيل التأبيد، وقال أبو حنيفة‏:‏ حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب‏.‏

رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام عاصم بن عدي الأنصاري، فقال‏:‏ جعلني الله فداءك، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً، فأخبر بما رأى، جُلِدَ ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً، ولا تقبل شهادته أيضاً، فكيف لنا بالشهداء، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته، وإن ضربه بالسيف قُتل‏؟‏ اللهم افتح، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية- وقيل‏:‏ عُوَيْمِر- فقال‏:‏ ما وراءك‏؟‏ فقال‏:‏ الشر، وجدت على امراتي خولة- وهي بنت عاصم- شريكَ بن سحماء- فقال عاصم‏:‏ والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به، فرجعا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة‏:‏ فأنكرت، فنزلت هذه الآية، فتلاعنا في المسجد، وفرَّق بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ارقبوا الولد، إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فما أراه إلا كذب عليها، وإن جاءت به على نعت كذا، فما أراه إلا صدق»

فجاءت به على النعت المكروه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضلُ الله عليكم‏}‏ أي‏:‏ تفضله عليكم ‏{‏ورحمتُه‏}‏؛ ونعمته ‏{‏وأنَّ الله تواب حكيم‏}‏، وجواب «لولا»‏:‏ محذوف؛ لتهويله، والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل‏:‏ لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في جميع افعاله وأحكامه، التي من جملتها‏:‏ ما شرع لكم من حكم اللعان، لكان ما كان، مما لا يحيط به نطاق العبارة، من حد الزوج مع الفضيحة، أو قتل المرأة، أو غير ذلك من العقوبة‏.‏ قال القشيري‏:‏ لبقيتم في هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ النفس إذا تحقق فناؤها، وكمل تهذيبها، رجعت سراً من أسرار الله، فلا يحل رميها بنقص؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص، فإن رماها بشيء فليبادر بالرجوع عنه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏عُصْبة‏)‏‏:‏ خبر «إن»، و‏(‏لا تحسبوه‏)‏‏:‏ استئناف‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين جاؤوا بالإِفْكِ‏}‏؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل‏:‏ هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك‏.‏ والمراد‏:‏ مَا أُفِك على الصديقة عائشة- رضي الله عنه-، وفي لفظ المجيء إشارة إلا أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل‏.‏

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائِه، فأيَّتهُنَّ خرجت قُرعتها استصحبها، قالت عائشة- رضي الله عنها-‏:‏ فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها- قيل‏:‏ هي غزوة بني المصطلق، وتُسمى أيضاً‏:‏ غزوة المريسيع، وفيها أيضاً نزل التيمم- فَخَرّج سهمي، فخرجتُ معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، فحُملت في هودج، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة؛ نزلنا منزلاً، ثم نُودي بالرحيل، فقمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش، فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي، فلمسْتُ صدري فإذا عِقْدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظفارٍ قد انقطعَ، فرجعتُ فالتمسته، فحبسني التماسه‏.‏ وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنِّي فيه؛ لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي، وظننت أن سيفقدونني ويعودُون في طَلَبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صَفْوَانُ بن المعطِّل قد عرّس من وراء الجيش، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي، فلما رآني عرفني، وكان يراني قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه، فخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعتُ منه كلمة، غير استرجاعه، فأناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، وانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش مُوغرين في نَحْرِ الظهيرة، وهم نزول، وافْتَقَدني الناسُ حين نَزَلُوا، وماج الناس في ذِكْرِي، فبينما الناس كذلك إذ هَجَمْتُ عليهم، فخَاضَ الناس في حديثي، فهلك مَنْ هلك‏.‏ والحديث بطوله مذكور في الصحيحين والسّيَر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عُصْبَةٌ منكم‏}‏ أي‏:‏ جماعة من جلدتكم، والعصبة‏:‏ من العشرة إلى الأربعين، وكذا العصابة، يقال‏:‏ اعصوصبَوا‏:‏ اجتمعوا‏.‏ وهم عبد الله بن أُبّي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم‏.‏ واختلف في حساب بن ثابت، فمن قال‏:‏ كان منهم، أنشد البيت المروي في شأنهم ممن جلدوا الحد‏:‏

لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الذي هُو أَهْلُهُ *** وَحِمْنَةُ؛ إذ قالا هجَيْراً، وِمسْطَحُ

ومن برَّأ حَسان من الإفك قال‏:‏ إنما الرواية في البيت‏:‏ ‏(‏لقد ذاق عبد الله ما كان أهله‏)‏، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عبد الله بن أُبّي، حين حدّ الرامين لعائشة، تأليفاً له؛ قال البرماوي في حاشيته علىلبخاري في فوائد حديث الإفك‏:‏ وفيه ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة، كما ترك عليه الصلاة والسلام حدّ ابن سلول‏.‏

ه‏.‏ وقد رَوى ابن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقد أنكر حسانُ أن يكون قال فيها شيئاً في أبياته، التي من جملتها‏:‏

حَصَانُ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ *** وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ

إلى أن قال‏:‏

فَإنْ كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي قُلْتُه *** فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنامِلي

ويجمع بين قوله هنا ذلك، وبين قولها له عند قوله‏:‏ وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ‏:‏ «لكنك لست كذلك»؛ بأنه لم يقل نصاً وتصريحاً، ولكن عرّض وأومأ، فنُسب ذلك إليه‏.‏ والله أعلم أيُّ ذلك كان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحسَبُوه شَرَّا لكم‏}‏، والخطاب للرسول- عليه الصلاة والسلام-، وأبي بكر، وعائشة، وصفوان؛ تسلية لهم من أول الأمر، ‏{‏بل هو خيرٌ لكم‏}‏؛ لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله عز وجل؛ بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن خيراً بكم، مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله، والافتقار إليه، والإياس مما سواه‏.‏

ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله‏:‏ ‏{‏لكل امرىءٍ منهم‏}‏ أي‏:‏ من أولئك العصبة ‏{‏ما اكتسبَ من الإثم‏}‏ أي‏:‏ له من الجزاء بقدر ما خاض فيه، وكان بعضهم ضحك، وبعضهم تكلم، وبعضهم سكت‏.‏ ‏{‏والذي تولى كِبْرَهُ‏}‏ أي‏:‏ معظمه وجُله ‏{‏منهم‏}‏ أي‏:‏ من العصبة، وهو عبد الله بن أُبَيّ ‏{‏له عذابٌ عظيم‏}‏ في الآخرة، إن كان كافراً، كابن أُبّي، وفي الدنيا إن كان مؤمناً، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم‏.‏ وقد رُوي أن مسطح كُف بصره، وكذلك حسان، إن ثبت عنه الخوض فيه، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كلام الناس في أهل الخصوصية مَقَاذِفُ لسير سفينتهم، ورياح لها، فكلما قوي كلام الناس في الولي قَوِيَ سَيْرُهُ إلى حضرة ربه، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حَطاَّبَة‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء»‏.‏

والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه، لا يحب أن تركن إلى غيره، فمهما ركنت إلى شيء شوش ذلك عليه، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه حين أمر بذبحه، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السلام مع ابنه حين غيّبه عنه‏.‏ وكانت عائشة رضي الله عنها- قد استولى عليها حبه- عليه الصلاة والسلام-، فكادت تحجب بالواسطة عن الموسوط، فردها إليه تعالى بما أنزل بها، تمحيصاً وتخليصاً وتخصيصاً، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود، فقالت‏:‏ بحمد الله، لا بحمد أحد‏.‏ وكذا شأنه تعالى مع أحبائه؛ يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا حتى لا يكونوا لغيره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال ابن هشام‏:‏ وقد يلي حرف التخصيص اسم معلق بفعل، إما بمضمر، نحو‏:‏ «فهَلاَّ بكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك» أي‏:‏ فهلا تزوجت، أو مؤخراً نحو‏:‏ ‏(‏لولا إذ سمعتموه قلتم‏.‏‏.‏‏)‏ أي‏:‏ فهلا قلتم إذ سمعتموه‏.‏ ه‏.‏ وإليه أشار في الخلاصة بقوله‏:‏

وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ *** عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لولا إذْ سمعتموه‏}‏ أي‏:‏ الإفك ‏{‏ظنَّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً‏}‏ بالذين هم منهم؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ هلا ظنوا بإخوانهم خيراً‏:‏ عَفَافاً وصلاحاً، وذلك نحو ما يُروى عن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا قاطع بكذب المنافقين؛ لأن الله تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك، لئلا يقع على النجاسات فَتُلَطَّخَ بها، فإذا عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة‏)‏ ‏!‏‏.‏ وقال عثمان رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ما أوقع ظلك على الأرض؛ لئلا يضع إنسان قدمه عليه؛ فلَمَّا لم يُمكِّن أحداً من وضع القدم على ظلك، فكيف يُمكِّن أحداً من تلويث عرض زوجتك‏!‏‏)‏‏.‏

وكذا قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إن جبريل أخبرك أنَّ على نَعْلِك قذراً، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك، بسبب ما التصق به من القذر، فكيف لا يأمرك بإخراجها، على تقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش‏)‏ ‏؟‏ قال النسفي‏.‏

وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته‏:‏ ألا ترين ما يقال في عائشة‏؟‏ فقالت‏:‏ لو كُنْتَ بدل صفوان أَكُنْتَ تخُون رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ لا، قالت‏:‏ ولو كنتُ أنا بدل عائشة مَا خُنْتُ رسول الله، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك‏.‏ وفي رواية ابن إسحاق‏:‏ قالت زوجة أبي أيوب لأبي أيوب‏:‏ ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة‏؟‏ قال‏:‏ بلى، وذلك الكذب‏.‏ أَكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب‏؟‏ قالت‏:‏ لا والله، فقال‏:‏ عائشة خير منك، سبحان الله، هذا بهتان عظيم، فنزل‏:‏ ‏{‏لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير الظاهر، ولم يقل‏:‏ ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم؛ ليبالغ في التوبيخ بطرق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسيء الظن بأحد من المؤمنين‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ عند سماع هذه الفرية‏:‏ ‏{‏هذا إفكٌ مبين‏}‏؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق‏.‏ ‏{‏لولا جاؤوا عليه بأربعةِ شهداءَ‏}‏؛ هلاَّ جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا ‏{‏فإِذْ لم يأتوا بالشهداءَ‏}‏، ولم يقل‏:‏ «بهم»؛ لزيادة التقرير، ‏{‏فأولئك‏}‏ الخائضون ‏{‏عند الله‏}‏ أي‏:‏ في حُكمه وشرعه ‏{‏هم الكاذبون‏}‏؛ الكاملون في الكذب، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ حُسن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله، ولا سيما ما فيه حرمة من حُرَم الله‏.‏ قال القشيري على الآية‏:‏ عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وتَرْكِ الإعراضِ عن حُرمة بيت نبيهم‏.‏ ثم قال‏:‏ وسبيلُ المؤمن ألا يستصغر في الوفاق طاعة، ولا في الخلاف زَلَّةً، فإِنَّ تعظيمَ الأمْرِ بتعظيم الآمرِ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول- عليه الصلاة والسلام- فذلك أعظم عند الله، ولذلك بالغ في التوبيخ على ما أقدموا عليه، مما تأذى به الرسول، وقلوب آل الصدِّيق، وقلوب المخلصين من المؤمنين‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏لولا‏)‏ هنا‏:‏ امتناعية بخلاف المتقدمة؛ فإنها تحضيضية، و‏(‏إذ سمعتموه‏)‏‏:‏ معمول لقُلتم، و‏(‏إذْ تلقونه‏)‏‏:‏ ظرف لمسَّكم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولولا فضلُ الله عليكم‏}‏ أيها السامعون ‏{‏ورحمتُهُ في الدنيا‏}‏؛ من فنون النِعَم، التي من جملتها‏:‏ الإمهال والتوبة، ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏الآخرةِ‏}‏؛ من ضروب الآلاء، التي من جملتها‏:‏ العفو والمغفرة، ‏{‏لمسَّكم‏}‏ عاجلاً ‏{‏فيما أفَضْتُم‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما خضتم ‏{‏فيه‏}‏ من حديث الإفك ‏{‏عذابٌ عظيمٌ‏}‏ يُستحقر دونه التوبيخ والجَلْدُ، يقال أفاض في الحديث، وفاض، واندفع‏:‏ إذا خاض فيه‏.‏

‏{‏إذْ تلقَّوْنه‏}‏ أي‏:‏ لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له، يقال‏:‏ تلقى القول، وتلقنه، وتلقفه، بمعنى واحد، غير أن التلفق‏:‏ فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة، أي‏:‏ إذ تأخذونه ‏{‏بألسنتكم‏}‏؛ بأن يقول بعضُكم لبعض‏:‏ هل بلغك حديث عائشة، حتى شاع فيما بينكم وانتشر، فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طارفيه‏.‏ ‏{‏وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علمٌ‏}‏ أي‏:‏ قولاً لا حقيقة له، وقيّده بالأفواه، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم؛ لأن الشيء المعلوم يكون في القلب، ثم يترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور فيه الأفواه، من غير ترجمة عن علم به في القلب‏.‏ ‏{‏وتحسبونه هيِّناً‏}‏ أي‏:‏ وتظنون أن خوضكم في عائشة سَهْلٌ لا تبعة فيه، ‏{‏وهو عند الله عظيم‏}‏ أي‏:‏ والحال أنه عند الله كبير، لا يُقادر قدره في استجلاب العذاب‏.‏ جزع بعض الصالحين عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ أخاف ذنباً لم يكن مني على بال، وهو عند الله عظيم‏.‏

‏{‏ولولا إذْ سَمِعْتُموه‏}‏ من المخترعين والشائعين له ‏{‏قُلتم ما يكونُ لنا‏}‏؛ ما يمكننا ‏{‏أن نتكلَّمَ بهذا‏}‏، وما ينبغي أن يصدر عنا، وتوسيط الظروف بين «لولا» و«قلتم» إشارة إلى أنه كان الواجب أن يُبادروا بإنكار هذا الكلام في أول وقت سمعوه، فلما تأخر الإنكار وبَّخهم عليه، فكان ذكرُ الوقت أَهَمَّ، فقدّم، والمعنى‏:‏ هلاَّ قُلتم إذ سمعتم الإفك‏:‏ ما يصح لنا أن نتكلم بهذا، ‏{‏سبحانك‏}‏؛ تنزيهاً لك، وهو تعجبٌ مِنْ عِظَمِ ما فاهوا به‏.‏ ومعنى التعجب في كلمة التسبيح‏:‏ أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه‏.‏ أو‏:‏ تنزيهاً لك أن يكون في حرم نبيك فاجرة، ‏{‏هذا بهتانٌ عظيم‏}‏؛ لعظمة المبهوت عليه، واستحالة صدقه، فإنَّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها‏.‏ وقال فيما تقدم‏:‏ ‏{‏هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكونوا أُمروا بهما معاً، مبالغة في التبري‏.‏

‏{‏يَعِظُكُمُ الله‏}‏ أي‏:‏ ينصحكم ‏{‏أن تعودوا لمثله‏}‏ أي‏:‏ كراهة أن تعودوا، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع، ‏{‏أبداً‏}‏؛ مدة حياتكم، ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة‏.‏

وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو الإيمان الصادُّ عن كل قبيح‏.‏

‏{‏ويُبيِّن الله لكم الآياتِ‏}‏ الدالة على الشرائع ومحاسن الأدب، دلالة واضحة؛ لتتعظوا وتتأدبوا، أي‏:‏ ينزلها كذلك ظاهرة مبينة، ‏{‏والله عليمٌ حكيمٌ‏}‏؛ عليم بأحوال مخلوقاته، حكيم في جميع تدابيره وأفعاله، فَأَنَّى يصحُّ ما قيل في حرمة من اصطفاه لرسالته، وبعثه إلى كافة الخلق، ليرشدهم إلى الحق، ويزكيهم ويطهرهم تطهيراً‏؟‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الكلام في الأولياء سم قاتل؛ لأن الله ينتصر لأوليائه لا محالة، فمنهم من ينتصر لهم في الدنيا بإنزال البلايا والمحن في بدنه أو ولده أو ماله، ومنهم من يؤخر عقوبته إلى الآخرة، وهو أقبح‏.‏ ومنهم من تكون عقوبته دينية قلبية؛ كقساوة القلب وجمود العين، وتعويق عن الطاعة، ووقوع في ذنب، أو فترة في همة، أو سلب لذاذة خدمة أو معرفة، وهذه أقبح العقوبة، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين يُحبون‏}‏؛ يريدون ‏{‏أن تشيعَ الفاحشةُ‏}‏ أي‏:‏ تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهو الرمي بالزنا، أو نفس الزنا، والمراد بشيوعها‏:‏ شيوع خبرها، أي‏:‏ يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها‏.‏ وإنما لم يصرح به؛ اكتفاء بذكر المحبة؛ فإنها مستلزمة له لا محالة، وهم‏:‏ عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن تبعهم‏.‏ ‏{‏لهم عذابٌ أليم في الدنيا‏}‏؛ بالحدّ والفضيحة والتكذيب‏.‏ ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة‏.‏ وتقدم الخلاف في ابن أُبي، فقيل‏:‏ حدَّه، وقيل‏:‏ تركه؛ استئلافاً له‏.‏

‏{‏و‏}‏ لهم العذاب في ‏{‏الآخرة‏}‏ بالنار وغيرها، إن لم يتوبوا‏.‏ ‏{‏والله يعلم‏}‏ جميع الأمور، التي من جملتها‏:‏ المحبة المذكورة، ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ ما يعلمه تعالى، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة، فابنوا أمركم على ما تعلمونه، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة، والله يتولى السرائر، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور‏.‏

‏{‏ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه‏}‏؛ التكرير؛ لتعظيم المِنَّةِ بترك المعاجلة؛ للتنبيه على كَمَالِ عِظَمِ الجريمة، ‏{‏وأنَّ الله رؤوف رحيم‏}‏ عطف على ‏(‏فضل الله‏)‏، أي‏:‏ لولا فضله ورأفته لعاَجلكم بالعقوبة، وإظهار إسم الجليل؛ لتربية المهابة، والإشعار باستتباع صفة الأولوهية للرأفة والرحمة، وتصديره بحرف التأكيد؛ لأن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة التي هي كمال الرحمة وبالرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوام والاستمرار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن أهل الُبعد والإنكار‏:‏ أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب في أهل النِّسْبَةِ وأهل الخصوصية فرحوا، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم؛ قصداً لغض مرتبتهم؛ حسداً وعناداً، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ولولا فضل الله ورحمته لعاجلهم بالعقوبة‏.‏ والله تعالى أعلم وأحلم‏.‏

ولما نزلت براءة عائشة- رضي الله عنها- حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئاً؛ غضباً لعائشة، وكان يُنفق عليه؛ لقرابته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطواتِ الشيطان‏}‏ أي‏:‏ لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل، والتي من جملتها‏:‏ منع الإحسان إلى من أساء إليكم؛ غضباً وحَمِيَّةً، ‏{‏ومن يتبع خُطُوات الشيطان‏}‏، وضع الظاهر موضع المضمر، حيث لم يقل‏:‏ ومن يتبعها، أو‏:‏ ومن يتبع خطواته؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير، ‏{‏فإنه‏}‏ أي‏:‏ الشيطان ‏{‏يأمرُ بالفحشاء‏}‏؛ كالبخل والشح، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ، ‏{‏والمنكر‏}‏؛ كالغضب، والحمية، وكل ما ينكره الشرع؛ لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما‏.‏ فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره‏.‏

‏{‏ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه‏}‏ بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ، ‏{‏ما زَكَى منكم‏}‏ أي‏:‏ ما طَهُرَ من أَدْناسِ العيوب ولوث الفواحش ‏{‏من أحدٍ أبداً‏}‏؛ إلى ما لا نهاية له، وإذا كان التطهير والعصمة بيد الله فلا تروا لأنفسكم فضلاً عمن لم يعصمه الله؛ فإنه مقهور تحت مجاري الأقدار، ‏{‏ولَكِنَّ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ‏}‏؛ يطهر من يشاء من عباده؛ بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه؛ بالحفظ والرعاية، أو بالتوبة بعد الجناية، ‏{‏والله سميعٌ عليم‏}‏؛ سميع لأقوالكم وإن خفيت، ومن جملتها‏:‏ الحلف على ترك فعل الخير، عليم بنياتكم وإخلاصكم‏.‏

وهذا الكلام مقدمة لقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأْتَل‏}‏، من قولك‏:‏ أليت‏:‏ إذا حلفت، أي‏:‏ لاَ يَحْلِفْ ‏{‏أولو الفضل منكم‏}‏ أي‏:‏ في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصِّدِيقِ رضي الله عنه، ‏{‏والسَّعَةِ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ والسعة في المال ‏{‏أن يُؤتوا‏}‏ أي‏:‏ لا يحلف على ألا يُعطوا ‏{‏أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيلِ الله‏}‏؛ كمسطح، فإنه كان ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين‏.‏ وهذه الأوصاف هي لموصوف واحد، جيء بها، بطريق العطف؛ تنبيهاً على أن كلاًّ منها علة مستقلة لا ستحقاقه الإيتاء‏.‏ وحذف المفعول الثاني؛ لظهوره، أي‏:‏ على ألاّ يؤتوهم شيئاً، ‏{‏وليعفُوا‏}‏ عما فرط منهم ‏{‏وليصفحُوا‏}‏ بالإغضاء عنه، فالعفو‏:‏ التستر، والصفح‏:‏ الإعراض، أي‏:‏ وليتجاوزوا عن الجفاء، وليُعرضوا عن العقوبة‏.‏

‏{‏ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم‏}‏ ‏؟‏ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم، مع كثرة خطاياهم، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏؛ مبالغ في المغفرة والرحمة، مع كثرة ذنوب العباد، فتأدبوا بآداب الله، واعفوا، وارحموا‏.‏ ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال‏:‏ بل أُحب أن يغفر الله لي‏.‏ ورد إلى مسطح نفقته، وقال‏:‏ والله لا أنزعها منه أبداً‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما يصد عن مكارم الأخلاق؛ كالحلم، والصبر، والعفو، والكرم، والإغضاء، وغير ذلك من الكمالات، فهو من خطوات الشيطان، تجب مجانبته، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر؛ كالغضب، والانتصار، والحمية، والحقد، والشح، والبخل، وغير ذلك من المساوئ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له، والتعلق بأذيال فضله وكرمه‏.‏

ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً، فإذا تعلق بالله، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه، إما بلا سبب، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل، يُربيه ويهذبه بإذن الله، وهذا هو الكثير، والكل منه وإليه‏.‏

قال الورتيجبي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم رحمته‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏:‏ بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً، فالمعلول لا يُطَهِّرُ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله‏.‏ قال السياري‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏، ولم يقل‏:‏ لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد؛ ليعلم أن العبادات، وإن كثرت، فإنها من نتائج الفضل‏.‏ ه‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتل أولو الفضل منكم‏}‏، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه، وعنايةٌ سابقةٌ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف، فليشهدْ ذلك، ولا يأتل على من لم يجد ذلك، حتى وقع فيما وقع من القذف، بل يعذره، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك، مع كون المحل قابلاً، ولكن الله خَصَّصَهُ‏.‏ ه‏.‏

قال الورتجيبي على قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏:‏ في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات، من المريدين، ويتخلقوا بخلق الله، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم‏.‏ ثم قال‏:‏ فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «يوم تشهد»‏:‏ ظرف للاستقرار، في «لهم»، أو‏:‏ معمول لا ذكر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون‏}‏؛ يقذفون ‏{‏المحصَنَاتِ‏}‏؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، ‏{‏الغافلاتِ‏}‏ عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يُجربن الأمور، ‏{‏المؤمنات‏}‏؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ جميع المؤمنات؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ وقيل‏:‏ أريدت عائشة وحدها، وإنما جمع؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ‏.‏

ثم ذكر الوعيد، فقال‏:‏ ‏{‏لُعِنُوا في الدنيا والآخرة‏}‏، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، ‏{‏ولهم‏}‏ مع ذلك ‏{‏عذابٌ عظيم‏}‏، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون‏.‏

‏{‏يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ بما أَفكوا وبَهَتُوا ‏{‏يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم‏}‏ أي‏:‏ يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم ‏{‏الحقَّ‏}‏ أي‏:‏ الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة، أو الذي هم أهله، والحق‏:‏ صفة لدينهم، أو لله، ونصب على المدح‏.‏ ‏{‏ويَعْلَمُونَ‏}‏ عند ذلك ‏{‏أن الله هو الحقُّ‏}‏ الثابت الواجب الوجود ‏{‏المبين‏}‏؛ الظاهر البين؛ لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري؛ لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً‏.‏

ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة- رضي الله عنها- فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة- رضي الله عنها‏)‏، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه‏:‏ أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات‏.‏ فانظر‏:‏ كم بينها وبين تبرئة أولئك‏؟‏‏!‏ وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال‏:‏ كيف تبقى زوجة نبيكم، مع رجل أجنبي‏؟‏ فقال له من كان يناظره من العلماء‏:‏ قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم فبُهت الذي كفر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف، هي من أكمل الأوصاف‏:‏ العفة، والتغافل، وتحقيق الإيمان؛ أما العفة‏:‏ فهي حفظ القلب من دخول الهوى، والجوارح من معاصي المولى، وأما التغافل‏:‏ فهو الغيبة عما سوى الله، والتغافل عن مساوئِ الناس‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «المؤمن ثلثاه تغافل»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المومنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، والمنافقُ خَبٌّ لَئِيمٌ» وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار، وبصحبة الصالحين الأبرار، ثم يصير الإيمان ضرورياً بصحبة العارفين الكبار‏.‏

قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏‏:‏ تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره‏.‏ ويقال‏:‏ لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الخبيثاتُ‏}‏ من النساء ‏{‏للخبيثين‏}‏ من الرجال، ‏{‏والخبيثون‏}‏ من الرجال ‏{‏للخبيثات‏}‏ من النساء‏.‏ وهذه قاعدة السنة الإلهية، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والطيباتُ‏}‏ من النساء ‏{‏للطيبين‏}‏ من الرجال ‏{‏والطيبون‏}‏ من الرجال، ‏{‏للطيباتِ‏}‏ من النساء، فهذا هو الغالب‏.‏

وحيث كان- عليه الصلاة والسلام- أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصديقة- رضي الله عنها- من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك مبرؤون مما يقولون‏}‏، على أن الإشارة إلى أهل البيت، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً، وقيل‏:‏ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان، وما في أسم الإشارة معنى البُعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل، أي‏:‏ أولئك الموصوفون بعلو الشأن‏:‏ مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏(‏الخبيثات‏)‏ من القول تقال ‏(‏للخبيثين‏)‏ من الرجال والنساء، أي‏:‏ لائقة بهم، لا ينبغي أن تقال إلا لهم‏.‏ ‏(‏والخبيثون‏)‏ من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول‏.‏ ‏(‏والطيبات‏)‏ من الكلم ‏(‏للطيبين‏)‏ من الفريقين، مختصة بهم، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الطيبون ‏{‏مبرؤون‏}‏ مما يقول الخبيثون في حقهم‏.‏

فمآله تنزيه الصديقة أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ، ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ لما لا يخلو عنه البشر من الذنب، ‏{‏ورزق كريم‏}‏؛ هو نعيم الجنان‏.‏

دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة- رضي الله عنها- في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل، فقال‏:‏ لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، وتلى الآية، فغشي عليها‏:‏ فرحاً بما تلا‏.‏ وقالت رضي الله عنها-‏:‏ ‏(‏قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة‏:‏ نزل جبريل بصورتي في راحته، حين أمر- عليه الصلاة والسلام- أن يتزوجني، وتزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، وتوفي- عليه الصلاة والسلام- ورأسه في حِجْري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخُلقت طيبة عند طيب، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً‏)‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الأخلاق الخبيثة؛ مثل الكبر، والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد، والحسد، وحب الجاه والمال، للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، فهم متصفون بها، وهي لازمة لهم، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير، فيتطهرون بإذن الله، والأخلاق الطيبات؛ كالتواضع، والإخلاص، وسلامة الصدور، والزهد، والورع، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة، للطيبين، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات‏.‏ أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم، لهم مغفرة؛ ستر لعيوبهم، ورزق كريم لأرواحهم؛ من قوت اليقين، وشهود رب العالمين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ أي‏:‏ بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها، ‏{‏حتى تستَأْنسوا‏}‏؛ تسأذنوا، وقُرىءَ به، والاستئناس‏:‏ الاستعلام، والاستكشاف، استفعال، من أنَس الشيء‏:‏ أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال، مستكشف له، هل يؤذن له أم لا، ويحصل بذكر الله جهراً، كتسبيحة أو تكبيرة‏.‏

أو تَنَحْنُحٍ، ‏{‏وتُسلِّموا على أهلها‏}‏، بأن يقول‏:‏ السلام عليكم، أَأَدْخُلُ‏؟‏ ثلالث مرات، فإذا أُذن له، وإلا رجع، فإن تلاقيا، قدّم التسليم، وإلا، فالاستئذان‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي‏:‏ التسليم ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏ من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية‏.‏

كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول‏:‏ حُييتم صباحاً، حييتم مساءاً، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف‏.‏ رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَأَسْتأذنُ على أمي‏؟‏ قال‏:‏ «نَعَم» قال‏:‏ ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتحُبُّ أن تراها عريانة‏.‏‏.‏‏.‏ ‏؟‏» ‏{‏لعلكم تذكَّرون‏}‏ أي‏:‏ أمرتكم به، أو‏:‏ قيل لكم هذا؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه‏.‏

‏{‏فإن لم تجدوا فيها‏}‏؛ في البيوت ‏{‏أحداً‏}‏ ممن يستحق الإذن، من الرجال البالغين وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء، ‏{‏فلا تدخلوها‏}‏، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية؛ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى؛ لما فيه الاطلاع على الحريم وعورات النساء‏.‏ فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا، واصبروا ‏{‏حتى يُؤْذَنَ لكم‏}‏ من جهة من يملك الإذن، أو‏:‏ فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه‏.‏

‏{‏وإن قيل لكم ارجِعُوا‏}‏ أي‏:‏ إذا كان فيها قوم، وقالوا‏:‏ ارجعوا ‏{‏فارجعوا‏}‏ ولا تُلحُّوا في طلب الإذن، ولا تقِفُوا بالأبواب، ولا تخرقوا الحجاب؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة، وإذا نهى عن ذلك؛ لأدائه إلى الكراهية؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها؛ من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك‏.‏ وعن أبي عبيد‏:‏ «ما قرعت باباً على عالم قط»‏.‏ فالرجوع ‏{‏وهو أزْكَى لكمْ‏}‏ أي‏:‏ أطيب لكم وأطهر؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة‏.‏ ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه‏.‏ وهو وعيد للمخاطبين‏.‏

‏{‏ليس عليكم جُنَاحٌ‏}‏ في ‏{‏أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ‏}‏ أي‏:‏ غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها، من غير أن يتخذها مسكناً؛ كالرُّبَطِ، والخانات، والحمامات، وحوانيت التجار‏.‏

‏{‏فيها متاعٌ لكم‏}‏ أي‏:‏ منفعة؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد، وإيواء الرجال والسلع، والشراء والبيع، والاغتسال، وغير ذلك، فلا بأس بدخولها بغير استئذان‏.‏ روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال‏:‏ يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات، فلا ندخلها إلا بإذن‏؟‏ فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ هي الخرابات، يُتَبَرَّزُ فيها، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره، والظاهر‏:‏ أنها من جملة ما ينتظم في البيوت، لا أنها المرادة فقط‏.‏ ‏{‏والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون‏}‏، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التصوف كله آداب، حتى قال بعضهم‏:‏ اجعل عملك مِلْحاً وأدبك دقيقاً‏.‏

فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول‏.‏ وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً‏.‏ وأما مع الشيخ‏:‏ فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 5‏]‏، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين‏}‏، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً، أي‏:‏ قل لهم‏:‏ ‏{‏يغضُّوا مِنْ أبصارهم‏}‏، و«مِن»‏:‏ للتبعيض، والمراد‏:‏ غض البصر عما يحرم، والاقتصار على ما يحل‏.‏ ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة، إلا خوف الفتنة، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم، أو مع غلامها‏؟‏ قال مالك‏:‏ لا بأس بذلك، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن القطان‏:‏ فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره وقال عياض‏:‏ ليس بواجب أت تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها، وعلى الرجل غض بصره‏.‏ ثم قال في الإكمال‏:‏ ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏و‏}‏ قل لهم أيضاً‏:‏ ‏{‏يحفظوا فُرُوجَهُم‏}‏، إلا على أزواجهم، أو ما ملكت إيمانهم، وتقييد الغض بمن التبعيضية، دون حفظ الفروج؛ لِما في النظر من السَّعَة، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين‏.‏ قاله النسفي‏.‏ قلت‏:‏ ومذهب مالك‏:‏ حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم، فإن تعذر التحرر مِنْهُ، كشغل البنات في الدار، باديات الأرجلِ، فليتمسك بقول الحنفي، إن لم يقدر على غض بصره‏.‏ قاله شيخنا الجنوي‏.‏

‏{‏ذلك أَزْكَى لهم‏}‏ أي‏:‏ أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة، ‏{‏إن الله خبير بما يصنعون‏}‏، وفيه ترغيب وترهيب، يعني‏:‏ أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، فكيف يجيلون أبصارهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور‏؟‏‏!‏ فعليهم، إذا عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على حَذر‏.‏

‏{‏وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن‏}‏؛ بالتستر والتصون عن الزنا، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء، وهي من الرجل‏:‏ ما عدا الوجه والأطراف، ومن النساء‏:‏ ما بين السرة والركبة، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف، أو بشهوة‏.‏

وقيل‏:‏ إن حصل الأمن من الشهوة جاز، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة‏.‏

‏{‏وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ‏}‏ من الزنا والمساحقة‏.‏ وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ‏.‏ ‏{‏ولا يُبدينَ زينتَهُن‏}‏؛ كالحُلي، والكحل، والخِصاب، والمراد بالزينة‏:‏ مَوَاضِعُها، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا، وهي‏:‏ الرأس، والأُذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع، والساق‏.‏ والزينة هي‏:‏ الإكليل، والقرط، والقلادة، والوِشاح، والدملج، والسوار والخلخال‏.‏ ‏{‏إلا ما ظهرَ منها‏}‏؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها، وهو الوجه والكفان، إلا لخوف الفتنة، زاد أبو حنيفة‏:‏ والقدمين، ففي ستر هذه حرج؛ فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها، ولا سيما الفقيرات منهن‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ‏}‏ أي‏:‏ وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ، جمع خمار، وهو ما يستر الرأس، ‏{‏على جيوبهن‏}‏، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن، وكانت واسعةً، يبدو منها صدورهن وما حواليها، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن؛ ستراً لما يبدو منها‏.‏ وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع، فَعُدِّيَ بعلى‏.‏

‏{‏ولا يُبدين زينتهنَّ‏}‏ أي‏:‏ مواضع الزينة الباطنة؛ كالصدر، والرأس، ونحوهما، كرره‏:‏ ليستثني منه ما رخص فيه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إلا لِبُعُولَتِهِنَّ‏}‏؛ لأزواجهن، فإنهم المقصودون بالزينة‏.‏ ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج، ‏{‏أو آبائِهنَّ‏}‏، ويدخل فيهم الأجداد، ‏{‏أو آباء بُعُولَتِهنَّ‏}‏؛ فقد صاروا محارم، ‏{‏أو أبنائهن‏}‏، ويدخل فيهم الأحفاد، ‏{‏أو أبناء بُعولتِهِنَّ‏}‏؛ لأنهم صاروا محارم أيضاً، ‏{‏أو إِخوانهن‏}‏ الشقائق، أو لأب، أو لأم، ‏{‏أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ‏}‏ وإن سفلوا، ويدخل سائر المحارم، كالأعمام، والأخوال، وغيرهم؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم، فإن تحققت؛ حيل بينهم، وعدم ذكر الأعمام والأخوال، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم؛ حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم، ‏{‏أو نسائهنّ‏}‏؛ يعني جميع المؤمنات؛ فكأنه قال‏:‏ أو صنفهن؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال، ‏{‏أو ما ملكت أيمانُهنّ‏}‏، يعني‏:‏ الإماء المؤمنات أو الكتابيات، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال‏:‏ منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي، والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً، وهو قول مالك‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- أتى فَاطِمَةَ بعبد، وَهَبَهُ لها، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال- عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُك»، فانظر من أخرجه‏.‏

واختلف‏:‏ هل يجوز أن يراها عبد زوجها، وعبد الأجنبي، أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏

‏{‏أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ‏}‏ أي‏:‏ الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، أو لخدمة، أو لشيء يُعْطَاهُ، كالوكيل والمتصرف‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ، أي‏:‏ حاجة وشهوة إلى النساء؛ كالخَصِيِّ، والمُخَنَّثِ، والشيخ الهَرِم، والأحمق، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين‏:‏ أن يكونوا تابعين، ولا إربة لهم في النساء‏.‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء‏}‏، أراد بالطفل‏:‏ الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال فيه‏:‏ «طفل» ما لم يراهق الحلُمُ‏.‏ و‏(‏يظهروا‏)‏ معناه‏:‏ يطلعون بالوطء على عورات النساء، مِنْ‏:‏ ظهر على كذا‏:‏ إذا قوي عليه، فمعناه‏:‏ الذين لم يطيقوا وطء النساء، أو‏:‏ لا يدرون ما عورات النساء‏؟‏‏.‏

‏{‏ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ‏}‏، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها، فيعلم أنها ذات خُلْخال، فنُهين عن ذلك؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها، فيورث ميل الرجال إليهن‏.‏ ويوهم أن لهن ميلاً إليهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ غض البصر عما تُكره رؤيته‏:‏ من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من غض بصره عن محارم الله، عوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه» وفي إرسال البصر‏:‏ مِنْ تشتيت القلب، وتفريق الهم، ما لا يخفى، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

وإِنَّكَ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً *** لِقَلْبِكَ، يَوْماً، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ

تَرَى، ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ *** عَلَيْهِ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ

فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى، فلا يرون إلا تجليات المولى‏.‏ قال الشبلي‏:‏ ‏{‏قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أبصار الرؤوس عن المحارم، وأبصار القلوب عما سِوَى الله‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏، قال بعضهم‏:‏ لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير؛ من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح‏.‏ ه‏.‏ فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس؛ من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته‏.‏ وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم أمر بالتوبة؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب‏.‏ فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون‏}‏؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط، وَلاَ سيما في الكف عن الشهوات، وقيل‏:‏ توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، فإنه، وإن جُبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه، والعزم على الكف عنه، كلما يُتَذَكَّرُ، ويَخْطِرُ بالبال‏.‏

وفي تكرير الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏أية المؤمنون‏}‏‏:‏ تأكيد للإيجاب، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال، حَتْماً‏.‏ قيل‏:‏ أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة‏.‏ وظاهر الآية‏:‏ أن العصيان لا ينافي الإيمان، فبادروا بالتوبة ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏؛ تفوزون بسعادة الدارين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ التوبة أساس الطريق، ومنها السير إلى عين التحقيق، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ، كمن يبني على غير أساس‏.‏ والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدىء والمتوسط والمنتهي، فتوبة المبتدىء من المعاصي والذنوب، وتوبة السائر‏:‏ من الغفلة ولوث العيوب، وتوبة المنتهي‏:‏ من النظر إلى سوى علام الغيوب‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ التوبة واجبة على كل مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة‏.‏

وفرائضها ثلاثة‏:‏ الندم على الذنب؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال‏.‏ والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان، من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبداً‏.‏ ومهما قضى الله عليه بالعود، أضحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً‏.‏ وآدابها ثلاث‏:‏ الاعتراف بالذنب، مقروناً بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار‏.‏ ومراتبها سبع‏:‏ فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات‏.‏ والبواعث على التوبة سبعة‏:‏ خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب، وتعظيم المقام، وشكر الإنعام‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ الأيامى‏:‏ جَمْعُ أَيِّمٍ، وأصله‏:‏ أيايم، فقلبت الياء؛ لآخِر الكلمة، ثم قلبت ألفاً، فصارت أيامى‏.‏ والأيم‏:‏ من لاَ زوج له من الرجال والنساء‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُوا‏}‏ أي‏:‏ زَوِّجُوا ‏{‏الأيامى منكم‏}‏ أي‏:‏ مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء، بِكراً كان أو ثيباً‏.‏ والمعنى‏:‏ زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر‏.‏ والخطاب للأولياء والحكام، أمرهم بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن‏.‏ وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح، واشتراط الولي فيه، وهو مذهب مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة‏.‏

‏{‏والصالحين‏}‏ أي‏:‏ الخيّرين، أو‏:‏ مَنْ يصلح للتزوج، ‏{‏من عِبَادِكم وإمائِكم‏}‏ أي‏:‏ من غلمانكم وجواريكم، والأمر‏:‏ للندب؛ إذ النكاح مندوب إليه، والمخاطبون‏:‏ ساداتهم‏.‏ ومذهب الشافعي‏:‏ أن السيد يُجبَر على تزويج عبيده، لهذه الآية، خلافاً لمالك، ومذهب مالك‏:‏ أن السيد يَجْبُر عبدَه على النكاح، خلافاً للشافعي‏.‏ واعتبار الصلاح في الأَرِقَّاءِ‏:‏ لأن مَنْ لاَ صَلاَحَ له بمعزلٍ من أن يكون خليقاً بأن يَعْتَنِيَ مولاه بشأنه، وأيضاً‏:‏ فالتزويج يحفظ عليه صَلاَحَهُ الحاصل، وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر؛ لأن الغالب فيهم الصلاح، على أنهم مستبدون بالتصرف في أنفسهم وأموالهم، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالصلاح‏:‏ صلاحهم للتزوج، والقيام بحقوقهم، فإن ضَعُفُوا؛ لم يُزَوَّجُوا‏.‏ ونفقة العبد على سيده؛ إن زَوَّجَه، أو أَذن له، وإلا خُيِّر فيه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكونوا فقراءَ‏}‏ من المال ‏{‏يُغْنِهِمُ الله من فضله‏}‏ بالكفاية والقناعة، أو باجتماع الرزقين‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «التمسوا الرزق بالنكاح» وقال ابن عجلان‏:‏ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة، فقال‏:‏ «عليك بالباءة»، أي‏:‏ التزوج‏.‏ وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ، متمسكين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم‏}‏، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة‏.‏ فالغِنَى، للمتزوج، مقيد بالمشيئة، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج، وقيل‏:‏ مقيد بحسن القصد، وهو مغيب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الترغيب في النكاح‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده»، وقال سمرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل‏)‏‏.‏ وقال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏

«من كان له ما يتزوج به، فلم يتزوج، فليس منا» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه به، فلم يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما» وقال أبو هريرة‏:‏ لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «شراركم عُزَّابُكُم، إذا تزوج أحدكم عَجَّ شيطانه‏:‏ يا ويله عَصَمَ ابنُ آدَمَ ثلثي دِينِهِ» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مسكين، مسكين، رجل ليست له امرأة، ومسكينة، مسكينة؛ امرأة ليست لها زوج، قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ وإن كانت غنية من المال‏؟‏ قال‏:‏ وإن»‏.‏

وقال أبو أمامة‏:‏ ‏(‏أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأمَّنت عليهم ملائكته‏:‏ الذي يحصر نفسه عن النساء، فلا يتزوج ولا يتسرى؛ لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء، والمرأة تتشبه بالرجال، وقد خلقها الله أنثى، ومُضلل المساكين‏)‏‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ لا يصح الزهد في النساء؛ لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين‏.‏ ووافقه ابن عُيَيْنَةَ، فقال‏:‏ ليس في كثرة النساء دنيا؛ لأن أزهد الصحابة كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً‏.‏ ه‏.‏ من القوت‏.‏

وقال عطية بن بُسْر المازني‏:‏ أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ «يا عكاف؛ ألك زوجة‏؟‏ قال‏:‏ لا، يارسول الله، ولا أمة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ وأنت صحيح موسر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، والحمد لله‏.‏ قال‏:‏ فإنك، إذاً، من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما تكون مؤمناً، فاصنع ما بدا لك‏.‏ فإن سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأرذال موتاكم عزابكم، ما للشيطان، في سلاح، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا» انظر الثعلبي‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحاً‏}‏ أي‏:‏ ليجتهد في العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجد الاستطاعة على النكاح؛ من المهر والنفقة، ‏{‏حتى يُغْنِيَهُم الله من فضلِهِ‏}‏؛ حتى يقدرهم الله على المهر والنفقة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجَاءٌ»، فانظر كيف رتَّب الحق تعالى هذه الأمور‏؟‏ أَمَرَ، أولاً، بما يَعْصِمُ من الفتنة، ويُبعد عن مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح المُحَصَّنِ للدين، المغني عن الحرام، ثم بعزف النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة، عند العجز عن النكاح، إلى أن يقدر عليه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نِتَاجُها حتى ينعقد النكاح بينها وبين شيخ كامل، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ، قذف نطفة المعرفة في الروح أو القلب أو النفس، ثم يربيها في مشيمة الهِمَّة، ثم في حَضَانة الحفظ والرعاية، فَيَظْهَرُ منها نِتاجُ اليقين والعلوم والأسرار والمعارف، وأما إن بقيت أيامَى؛ لا زوج لها، فلا مطمع في نِتَاجها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْكِحوا الأيامى منكم‏}‏، وهي الأرواح، والصالحين من قلوبكم، ونفوسكم، إن يكونوا فقراء؛ من اليقين، والمعرفة بالله، يغُنهم الله من فضله؛ بمعرفته، والله واسع عليم، وليتعفف، عن المناكر، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم، حتى يغنيهم الله من فضله؛ بالسقوط على شيخ كامل؛ فإنه من فضل الله ومنته، لا يسقط عليه إلا من اضْطُرَّ إليه، وصَدَقَ الطلبَ في الوصول إليه‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

ولما أمر بتزوج العبيد، أمر بمكاتبتهم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى آتَاكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ الكتاب هنا‏:‏ مصدر، بمعنى الكتابة‏.‏ وهي‏:‏ مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ، فإذا أداه؛ خرج حراً، وإن عجز، ولو عن نصف درهم، بقي رقيقاً‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والذين يَبْتَغُون الكتابَ‏}‏ أي‏:‏ والمماليك الذين يطلبون الكتابة ‏{‏مما ملكتْ أيمانُكم‏}‏؛ من عبيدكم ‏{‏فكاتِبُوهُم‏}‏، والأمر للندب، عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم‏:‏ على الوجوب، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة، فأبى عليه أنس، فقال له عمر‏:‏ لتكاتبنه، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ‏.‏ وإنما حمله مالك على الندب؛ لأن الكتابة كالبيع، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها‏.‏

واختلف‏:‏ هل يُجْبِرُ السيدُ عَبْدَهُ عليها، أم لا‏؟‏ قولان في المذهب‏.‏ ونزلت الآية بسبب حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه‏.‏ وحكمها عام، فأمر الله سادات العبيد أن يُكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة‏.‏ والكتابة‏:‏ أن يقول لمملوكه‏:‏ كاتبتك على كذا، فإن أدى ذلك عُتِقَ، ومعناه‏:‏ كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك‏.‏ وتجوز حَالَّةً، وتسمى‏:‏ القطاعة، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ علمتمْ فيهم خيراً‏}‏، أي‏:‏ قدرة على الكسب، وأمانة وديانة، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط، فالخير هنا‏:‏ القوة على الأداء بأي وجه كان، وقيل‏:‏ هو المال الذي يؤدي منه كتابته، من غير أن يسأل أموال الناس، وقيل‏:‏ الصلاح في الدين‏.‏

‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته، واخْتُلِف‏:‏ مَنِ المُخَاطَبُ بذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ هو خطاب للناس أجمعين، وقيل‏:‏ للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل‏:‏ للسادات المُكَاتِبينَ، وهو على هذا القول، ندب عند مالك، ووجوب عند الشافعي‏.‏ فإن كان الأمر للناس، فالمعنى‏:‏ أن يعطوهم صدقة من أموالهم، وإن كان للولاة‏:‏ فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم، وقيل‏:‏ يعطوهم من أموالهم، من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ، فقيل‏:‏ الربع، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الثلث، وقال مالك‏:‏ لا حد قي ذلك، بل أقل ما يطلق عليه شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا يجبره مالك‏.‏

وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل‏:‏ في أول نَجْمٍ‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

الإشارة‏:‏ العبيد على أربعة أقسام‏:‏ عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة، وعبد مأذون له في التجارة، وعبد مُكَاتبٌ، وعبد آبق‏.‏ فمثال الأول، وهو العبد القن‏:‏ أهل الخدمة، وهم العباد والزهاد، أقامهم الحق تعالى لخدمته، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته، أهل الصيام والقيام، وأهل السياحة والهيام‏.‏ ومثال الثاني، وهو المأذون له‏:‏ العارفون بالله، يتصرفون في ملك سيدهم بالله، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء، قد سخرّ لهم كل شيء، ولم يُسَخَّرُوا لشيء، سُلَِطُوا على كل شيء، ولم يُسَلَّطْ عليهم شيء، يخالطون الناس بجسمهم، ويباينونهم بسرهم، فالدنيا سوق تجارتهم، والمعرفة رأس بضاعتهم، والعدل في الغضب والرضا مِيزانُهم، والقصد في الفقر والغنى عُنْوانهم، والعلم بالله مفزعهم ومنجاهم، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم، والفهم عن الله مرجعهم ومأواهم‏.‏

ومثال الثالث، وهو المُكَاتَب‏:‏ الصالحون من المؤمنين؛ يعملون على فك رقبتهم من النار، فإذا أدوا ما فرض عليهم؛ حررهم بعد موتهم، وأسكنهم فسيح جنانه‏.‏ ومثال الآبق‏:‏ هم العصاة والفجار، استمروا على عصيانهم، حتى قدموا على الملك الجبار، فهم تحت حكم المشيئة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تُكْرهُوا فتياتكم‏}‏ أي‏:‏ إِمَاءَكُمْ، يقال للعبد‏:‏ فتى، وللأمة‏:‏ فتاة‏.‏ والجمع‏:‏ فتيات، ‏{‏على البغاء‏}‏ أي‏:‏ الزنا، وهو خاص بزنا النساء‏.‏ كان لابن أُبيِّ ست جوار‏:‏ مُعَاذَة، ومُسَيْكَة، وأميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، وكان يكرههن، ويضرب عليهن الضرائب لذلك، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ أي‏:‏ تعففاً، ليس قيداً في النهي عن الإكراه، بل جرى على سبب النزول، فالإكراه‏:‏ إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف، وكذلك الأمر بالزنا، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا‏.‏ وفيه توبيخ للموالي؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن؛ فأنتم أولى بذلك، ثم علل الإكراه بقوله‏:‏ ‏{‏لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا‏}‏ أي‏:‏ لتبتغوا بإكراهن على الزنا أجورهن وأولادهن، جيءَ به؛ تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير، أي‏:‏ لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال‏.‏

‏{‏ومن يُكْرِههُنَّ‏}‏؛ على ما ذُكِرَ من البغاء، ‏{‏فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ‏}‏ لهن ‏{‏رحيمٌ‏}‏ بهن، وفي مصحف ابن مسعود كذلك‏.‏ وكان الحسن يقول‏:‏ لهن والله‏.‏ وقيل‏:‏ للسيد إذا تاب‏.‏ واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم‏:‏ إما اعتبار أنهن- وإن كن مُكْرَهَاتٍ- لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية، وإما لغاية تهويل أمر الزنا، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة، لولا أن تداركهن المغفرة، الرحمة، مع قيام العذر في حقهن، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب‏؟‏

‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ‏}‏؛ مُو ضِّحَات، أو‏:‏ واضحات المعنى، والمراد‏:‏ الآيات التي بُينت في هذه السورة، وأوضحت معاني الأحكام والحدود‏.‏ وهو كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة؛ لبيان جلالة شأنها، المقتضي للإقبال الكلي على العمل بمضمونها‏.‏ وصُدر بِالْقَسَمِ الذي تُعرب عنه اللام؛ لإبراز كمال العناية بشأنها‏.‏ أي‏:‏ والله، لقد أنزلنا إليكم، في هذه السورة الكريمة، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه؛ من الحدود وسائر الأحكام، وإسناد البيان إليها‏:‏ مجازي، أو‏:‏ آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة، على أن «مُبَيِّنات»، مِنْ بيَّن، بمعنى تبين، كقولهم في المثل‏:‏ «قد بيَّن الصبح لذي عينين»، أي‏:‏ تبين‏.‏ ومن قرأها بالبناء للمفعول، فمعناه‏:‏ قد بيَّن الله فيها الأحكام والحدود‏.‏

‏{‏ومثلاً من الذين خَلَوا مِن قبلكم‏}‏ أي‏:‏ وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم، من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء، فتنتظم قصة عائشة- رضي الله عنها- المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة، انتظاماً واضحاً‏.‏ وتخصيص الآيات البينات بالسوابق، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات‏.‏

‏{‏و‏}‏ أنزلنا ‏{‏موعظةً للمتقين‏}‏ يتعظون بها، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب، والمراد‏:‏ ما وعظ به من الآيات والمثل، مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏، و‏{‏لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏ إلخ، ‏{‏يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وتخصيص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتسبةن لأنوارها، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي‏.‏ وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ، والموعظة بما وعظ به من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة‏:‏ جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها، أو رضي فعلها، فهو شريك الفاعل في الوزر، أو أعظم‏.‏ وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب، أو أعظم‏.‏ وفي الأثر‏:‏ «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه»‏.‏

قال القشيري‏:‏ حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة‏.‏ ه‏.‏ ومن هذا القبيل‏:‏ تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏